فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{يوم تبلى السرائر} أي يتعرف ويتصفح ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها ومما أخفي من الأعمال ويميز بين ما طاب منها وما خبث وأصل الابتلاء الاختبار وإطلاقه على ما ذكر إطلاق على اللازم وحمل السرائر على العموم هو الظاهر وأخرج ابن المنذر عن عطاء ويحيى بن أبي كثير أنها الصوم والصلاة والغسل من الجنابة وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضمن الله تعالى خلقه أربعاً: الصلاة والزكاة وصوم رمضان والغسل من الجنابة وهن السرائر التي قال الله تعالى: {يوم تبلى السرائر}».
وفي (البحر) ضم التوحيد إليها ولعل المراد بيان عظيمها على سبيل المبالغة لا حقيقة الحصر وسمع الحسن من ينشد قول الأخوص:
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا ** سريرة ود يوم تبلى السرائر

فقال ما أغفله عما في {والسماء والطارق} [الطارق: 1] وكأنه حمل البقاء فيه على عدم التعرف أصلاً فليفهم ويوم عند جمع من الحذاق ظرف لمحذوف يدل عليه {رجعه} أي يرجعه يوم الخ.
وقال الزمخشرية وجماعة: ظرف لـ: {رجعه} واعترض بأن فيه فصلاً بين المصدر ومعموله بأجنبي وأجب تارة بأنه جائز لتوسعهم في الظروف وأخرى بأن الفاصل هنا غير أجنبي لأنه إما تفسير أو عامل على المذهبين وقال عصام الدين: إن الفصل بهذا الأجنبي كلا فصل لأن المعمول في نية التقديم عليه وإنما أخر لرعاية الفاصلة وفيه ما لا يخفى.
وقيل ظرف لـ: {ناصر} بعد وتعقبه أبو حيان بأنه فاسد لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها وكذلك ما النافية على المشهور المنصور وقيل معمول لأذكر محذوفاً وهو كما ترى ويتعين هو أو ما قبله على رأي مجاهد وعكرمة ورأى الضحاك السابقين آنفاً.
وجوز الطبرسي تعلقه بقادر ولم يعلقه جمهور المعربين به لأنه يوهم اختصاص قدرته عز وجل بيوم دون يوم كما قال غير واحد وقال ابن عطية فروا من أن يكون العامل {لقادر} للزوم تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز أن يكون العامل وذلك أنه تعالى قال: {على رجعه لَقَادِرٌ} على الإطلاق أولاً وآخراً وفي كل وقت ثم ذكر سبحانه من الأوقات الوقت الأعظم على الكفار لأنه وقت الجزاء والوصول إلى العذاب ليجتمع الناس على حذره والخوف منه انتهى وهو على ما فيه لا يدفع الإيهام.
{فمآلهُ} أي الإنسان {لَهُ مِن قُوَّةٍ} في نفسه يمتنع بها {وَلاَ نَاصِرٍ} ينتصر به.
{وَالسماء ذَاتِ الرَّجْعِ (11)}
{والسماء} وهي المظلة في قول الجمهور {ذَاتِ الرجع} أي المطر في قولهم أيضًا كما في قول الخنساء:
يوم الوداع ترى دموعاً جارية ** كالرجع في المدجنة السارية

وأصله مصدر رجع المتعدي واللازم أيضًا في قول ومصدره الخاص به الرجوع سموا به الممطر كما سموه بالأوب مصدر آب ومنه قوله:
رياء شماء لا يأوي لقلتها ** إلا السحاب وإلا الأوب والسبل

فيرجع أو لأن السحاب يحمله من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض وبنى هذا غير واحد على الزعم وفيه بحث وعن أو المراد به فيه النحل لأن الله تعالى يرجعه حيناً فحيناً وقال الحسن: لأنه يرجع بالرزق كل عام أو أرادوا بذلك التفاؤل ابن عباس ومجاهد تفسير السماء بالسحاب والرجع بالمطر وقال ابن زيد السماء هي المعروفة والرجع رجوع الشمس والقمر والكواكب من حال إلى حال ومن منزلة إلى منزلة فيها وقيل رجوعها نفسها فإنها ترجع في كل دورة إلى الموضع الذي تتحرك منه وهذا مبني على أن السماء والفلك واحد فهي تتحرك ويصير أوجهاً حضيضاً وحضيضها أوجاً وقد سمعت فيما تقدم أن ظاهر كلام السلف أن السماء غير الفلك وأنها لا تدور ولا تتحرك والذي ذكر رأي الفلاسفة ومن تابعهم وقيل الرجع الملائكة عليهم السلام سموا بذلك لرجوعهم بأعمال العباد.
{والأرض ذَاتِ الصدع} هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات وأصله الشق سمي به النبات مجازاً أو هو مصدر من المبني للمفعول فالمراد تشققها بالنبات وروي ذلك عن عطية وابن زيد وقيل تشققها بالعيون وتعقب بأن وصف السماء والأرض عند الإقسام بهما على حقيقة القرآن الناطق بالبعث بما ذكر من الوصفين للإيماء إلى أنهما في أنفسهما من شواهده وهو السر في التعبير عن المطر بالرجع وذلك في تشقق الأرض بالنبات المحاكي للنشور حسبما ذكر في مواضع من التنزيل لا في تشققها بالعيون ويعلم منه ما في تفسير الرجع بغير المطر وكذا ما في قول مجاهد الصدع ما في الأرض من شقاق وأودية وخنادق وتشقق بحرث وغيره وما روي عنه أيضًا الصدع الطرق تصدعها المشاة وقيل ذات الأموات لأنصداعها عنهم للنشور.
{إِنَّهُ لَقول فَصْلٌ (13)}
{إنه} أي القرآن الذي من جملته هذه الآيات الناطقة بمبدأ حال الإنسان ومعاده وهو أولى من جعل الضمير راجعاً لما تقدم أي ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم لأن القرآن يتناول ذلك تناولاً أولياً وقوله تعالى: {لَقول فَصْلٌ} أنسب به والمراد لقول فاصل بين الحق والباطل قد بلغ الغاية في ذلك حتى كأنه نفس الفصل وقيل مقابلة الفصل بالهزل بعد يستدعي أن يفسر بالقطع أي قول مقطوع به والأول أحسن.
{وَمَا هُوَ بالهزل (14)}
{وَمَا هوَ بالهزل} أي ليس في شيء منه شائبة هزل بل كله جد محض فمن حقه أن يهتدي به الغواة وتخضع له رقاب العتاة وفي حديث أخرجه الترمذي والدارمي وابن الأنباري عن الحرث الأعور عن علي كرم الله تعالى وجهه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إنها ستكون فتنة قلت فما المخرج منها يا رسول الله قال كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ فيه الأهواء ولا نشبع منه العلماء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن الرد ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تنته الجن لما سمعته عن أن قالوا: إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن هدي به هدي إلى صراط مستقيم» وفي هذا من الرد على الذين نبذوه وراء ظهورهم ما فيه.
{إِنَّهُمْ يكيدون كَيْدًا (15)}
{إنَّهُمْ} أي كفار مكة {يكيدون} يعملون المكايد في إبطال أمره وإطفاء نوره أو في إبطال أمر الله تعالى وإطفاء نور الحق والأول أتم انتظاماً وهذا قيل أملأ فائدة {كَيْداً} أي عظيماً حسبما تفي به قدرتهم والجملة تحتمل أن تكون استئنافاً بيانياً كأنه قيل إذا كان حال القرآن ما ذكر فما حال هؤلاء الذين يقولون فيه ما يقولون فقيل إنهم يكيدون كيداً.
{وَأَكِيدُ كَيْداً} أي أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده حيث استدرجهم من حيث لا يعلمون أو أقابلهم بكيدي في إعلاء أمره وإكثار نوره من حيث لا يحتسبون والفصل لهذا وقيل لئلا يتوهم عطفها على جواب القسم مع أنها غير مقسم عليها.
{فَمَهّلِ الكافرين} فلا تشتغل بالانتقام منهم ولا تدع عليهم بالهلاك أو تأن وانتظر الانتقام منهم ولا تستعجل والفاء لترتيب مما بعدها على ما قبلها فإن الأخبار بتوليه تعالى لكيدهم بالذات وعدم اهمالهم مما يوجب إمهالهم وترك التصدي لمكايدتهم قطعاً ووضع الظاهر موضع الضمير لذمهم بأبي الخبائث وأمها وقيل للاشعار بعلة ما تضمنه الكلام من الوعيد وقوله تعالى: {أَمْهِلْهُمْ} بدل من {مهل} على ما صرح به في الإرشاد وقوله سبحانه: {رُوَيْداً} اما مصدر مؤكد لمعنى العَامل أو نعت لمصدره المحذوف أي أمهلهم إمهالاً رويداً أي قريباً كما أخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس أو قليلاً كما روي عن قتادة وأخرج ابن المنذر عن السدى أنه قال أي أمهلهم حتى آمر بالقتال ولعله المراد بالإمهال القريب أو القليل واختار بعضهم أن يكون المراد إلى يوم القيامة لأن ما وقع بعد الأمر بالقتال كالذي وقع يوم بدر وفي سائر الغزوات لم يعم الكل وما يكون يوم القيامة يعمهم والتقريب باعتبار أن كل آت قريب وعلى هذا النحو التقليل على أن من ماتب فقد قامت قيامته والظاهر ما قال السدى وقد عراهم بعد الأمر بالقتال ما عراهم وعدم العموم الحقيقي لا يضر وهو في الأصل على ما قال أبو عبيدة تصغير رود بالضم وأنشد:
كانها ثمل تمشي على رود

أي على مهل وقال أبو حيان وجماعة تصغير ارواد مصدر رواد يرود بالترخيم وهو تصغير تحقير وتقليل وله في الاستعمال وجهان آخران كونه اسم فعل نحو رويداً زيد أي أمهله وكونه حالاً نحو سار القوم رويداً أي متمهلين غير مستعجلين ولم يذكر أحد اجتمال كونه اسم فعل هنا وصرح ابن الشيخ بعدم جريانه وعلل ذلك بأن الأوامر كلها بمعنى فكانه قيل أمهل الكافرين أمهلهم أمهلهم وفائدة التأكيد تحصل بالثاني فيلغو الثالث وفي التعليل نظر فقد يسلك في التأكيد بألفاظ متحدة لفظاً ومعنى نحو ذلك ففي الحديث: «أيما امرأة أنكحت نفسها بدون ولي فنكاحها باطل باطل» ولا فرق بين الجمل والمفردات نعم هو خلاف الظاهر جدًّا وجوز رحمه الله كونه حالاً أي أمهلهم غير مستعجل والظاهر أنه حال مؤكدة كما في قوله تعالى: {لا تعثوا في الأرض مفسدين} [البقرة: 60] فلا تغفل وهو أيضًا بعيد وظاهر كلام أبي حيان وغيره أن الأمر الثاني توكيد للأول قالوا والمخالفة بين اللفظين في البنية لزيادة تسكينه صلى الله عليه وسلم وتصبيره عليه الصلاة والسلام وإنما دلت الزيادة من حيث الاشعار بالتغاير كأن كلا كلام مستقل بالأمر بالتأني فهو أوكد من مجرد التكرار وقرأ ابن عباس {مهلهم} بفتح الميم وشد الهاء موافقة للفظ الأمر الأول. اهـ.

.قال ابن عاشور:

و{يوم تبلى السرائر} متعلق بـ: {رجعه} أي يَرجعه يوم القيامة.
و{السرائر}: جمع سريرة وهي ما يسره الإِنسان ويُخفيه من نواياه وعقائده.
وبَلْو السرائر، اختبارها وتمييز الصالح منها عن الفاسد، وهو كناية عن الحساب عليها والجزاء، وبلوُ الأعمال الظاهرة والأقوال مستفاد بدلالة الفحوى من بلو السرائر.
ولما كان بلو السرائر مؤذناً بأن الله عليم بما يستره الناس من الجرائم وكان قوله: {يوم تبلى السرائر} مشعراً بالمؤاخذة على العقائد الباطلة والأعمال الشنيعة فرع عليه قوله: {فما له من قوة ولا ناصر}، فالضمير عائد إلى {الإنسان} [الطارق: 5].
والمقصود، المشركون من الناس لأنهم المسوق لأجلهم هذا التهديد، أي فما للإِنسان المشرك من قوة يدفع بها عن نفسه وما له من ناصر يدافع عنه.
{وَالسماء ذَاتِ الرَّجْعِ (11)}
بعد أن تبين الدليل على إمكان البعث أعقب بتحقيق أن القرآن حق وأن ما فيه قول فصل إبطالاً لما مُوِّه عليهم من أن أخباره غير صادقة إذ قد أخبرهم بإحياء الرمم البالية.
فالجملة استئناف ابتدائي لغرض من أغراض السورة.
وافتتح الكلام بالقَسم تحقيقاً لصدق القرآن في الإِخبار بالبعث وفي غير ذلك مما اشتمل عليه من الهدى.
ولذلك أعيد القَسَم بـ: {السماء} كما أقسم بها في أول السورة، وذكر من أحوال السماء ما له مناسبة بالمقسم عليه، وهو الغيث الذي به صلاح الناس، فإن إصلاح القرآن للناس كإصلاح المطر.
وفي الحديث: «مَثَل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغَيث الكثير أصاب أرضاً». الحديث.
وفي اسم الرجع مناسبة لمعنى البعث في قوله: {إنه على رجعه لقادر} [الطارق: 8] وفيه محسن الجناس التام وفي مسمى الرجع وهو المطر المعاقب لمطر آخر مناسبة لمعنى الرجع البعث فإن البعث حياة معاقبة بحياة سابقة.
وعطف {الأرض} في القسم لأن بذكر الأرض إتمام المناسبة بين المقسم والمقسم عليه كما علمت من المثل الذي في الحديث.
و{الصدع}: الشق، وهو مصدر بمعنى المفعول، أي المصدوع عنه، وهو النبات الذي يخرج من شقوق الأرض قال تعالى: {أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حبًّا وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً} [عبس: 25 29].
ولأن في هذين الحالين إيماء إلى دليل آخر من دلائل إحياء الناس للبعث فكان في هذا القسم دليلان.
والضمير الواقع اسماً لـ: {إن} عائد إلى القرآن وهو معلوم من المقام.
والفصل مصدر بمعنى التفرقة، والمراد أنه يفصل بين الحق والباطل، أي يبين الحق ويبطل الباطل، والإِخبار بالمصدر للمبالغة، أي إنه لقول فاصل.
وعطف {وما هو بالهزل} بعد الثناء على القرآن بأنه {لقول فصل} يتعين على المفسر أن يتبين وجه هذا العطف ومناسبته، والذي أراه في ذلك أنه أعقب به الثناء على القرآن رداً على المشركين إذ كانوا يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يهزل إذ يخبر بأن الموتى سيحْيَوْن، يريدون تضليل عامتهم حين يسمعون قوارع القرآن وإرشاده وجزالة معانيه يختلقون لهم تلك المعاذير ليصرفوهم عن أن يتدبروا القرآن وهو ما حكاه الله عنهم في قوله: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} [فصلت: 26] فالهزل على هذا الوجه هو ضدّ الجدّ أعني المزح واللعب، ومثل هذه الصفة إذا وردت في الكلام البليغ لا محمل لها إلا إرادة التعريض وإلا كانت تقصيراً في المدح لاسيما إذا سبقتها محمدة من المحامد العظيمة.
ويجوز أن يطلق الهزل على الهذيان قال تعالى: {وما هو بالهزل} أي بالهذيان.
{إِنَّهُمْ يكيدون كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)}
استئناف بياني ينبئ عن سؤال سائل يَعْجَب من إعراضهم عن القرآن مع أنه قول فصل ويعْجَب من معاذيرهم الباطلة مثل قولهم: هو هزل أو هذيان أو سحر، فبُين للسامع أن عملهم ذلك كيد مقصود.
فهم يتظاهرون بأنهم ما يصرفهم عن التصديق بالقرآن إلا ما تحققوه من عدم صدقه، وهم إنما يصرفهم عن الإيمان به الحفاظ على سيادتهم فيضللون عامتهم بتلك التعلات الملفقة.
والتأكيد بـ: {إن} لتحقيق هذا الخبر لغرابته، وعليه فقوله: {وأكيد كيداً} تتميم وإدماج وإنذار لهم حين يسمعونه.
ويجوز أن يكون قوله: {إنهم يكيدون كيداً} موجهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية له على أقوالهم في القرآن الراجعة إلى تكذيب من جاء بالقرآن.
أي إنما يدَّعون أنه هزل لقصد الكيد وليس لأنهم يحسبونك كاذباً على نحو قوله تعالى: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات اللَّه يجحدون} [الأنعام: 33].
والضمير الواقع اسماً لـ: {إن} عائد إلى ما فهم من قوله تعالى: {إنه لقول فصل وما هو بالهزل} [الطارق: 13، 14] من الرد على الذين يزعمون القرآن بعكس ذلك، أي أن المشركين المكذبين يكيدون.
وجملة: {وأكيد كيداً} تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم ووعد بالنصر.
و{كيداً} في الموضعين مفعول مطلق مؤكد لعامله وقصد منه مع التوكيد تنوين تنكيره الدال على التعظيم.
والكيد: إخفاء قَصد الضر وإظهار خلافه، فكيدهم مستعمل في حقيقته، وأما الكيد المسند إلى ضمير الجلالة فهو مستعمل في الإِمهال مع إرادة الانتقام عند وجود ما تقتضيه الحكمة من إنزاله بهم وهو استعارة تمثيلية، شبهت هيئة إمهالهم وتركهم مع تقدير إنزال العقاب بهم بهيئة الكائد يخفي إنزال ضره ويظهر أنه لا يريده وحسَّنها محسن المشاكلة.
{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)}
الفاء لتفريع الأمر بالإِمهال على مجموع الكلام السابق من قوله: {إنه لقول فصل} [الطارق: 13] بما فيه من تصريح وتعريض وتبْيين ووعدٍ بالنصر، أي فلا تستعجل لهم بطلب إنزال العقاب فإنه واقع بهم لا محالة.
والتمهيل: مصدر مَهَّل بمعنى أمهل، وهو الإِنظار إلى وقت معين أو غير معين، فالجمع بين {مَهِّل} و{أمهلهم} تكرير للتأكيد لقصد زيادة التسكين، وخولف بين الفعلين في التعدية مرة بالتضعيف وأخرى بالهمز لتحسين التكرير.
والمراد بـ: {الكافرين} ما عاد عليه ضمير {إنهم يكيدون} [الطارق: 15] فهو إظهار في مقام الإِضمار للنداء عليهم بمذمة الكفر، فليس المراد جميع الكافرين بل أريد الكافرون المعهودون.
و{رويداً} تصغير رُود بضم الراء بعدها واو، ولعله اسم مصدر، وأما قياس مصدره فهو رَود بفتح الراء وسكون الواو، وهو المَهْل وعدم العجلة وهو مصدر مؤكد لفعل {أمهلهم} فقد أكد قوله: {فمهل الكافرين} مرتين.
والمعنى: انتظر ما سيحلّ بهم ولا تستعجل لهم انتظار تربص واتّياد فيكون {رويداً} كناية عن تحقق ما يحلّ بهم من العقاب لأن المطمئن لحصول شيء لا يستعجل به.
وتصغيره للدلالة على التقليل، أي مُهلة غير طويلة.
ويجوز أن يكون {رويداً} هنا اسم فعل للأمر، كما في قولهم: رُويدك، لأن اقترانه بكاف الخطاب إذا أريد به اسم الفعل ليس شَرطاً، ويكون الوقف على قوله: {الكافرين} و{رويداً} كلاماً مستقلاً، فليس وجود فعل من معناه قبله بدليل على أنه مراد به المصدر، أي تصبر وَلا تستعجل نزول العذاب بهم فيكون كناية عن الوعد بأنه واقع لا محالة. اهـ.